كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وثالثها: أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة، دون أن يقفوا على حقيقة الأمر. فكيف أجمعوا على أنه عظّم آلهتهم حتى خروا سجدًّا؟ مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم.
ورابعها: قوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول، أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها. فإذا أراد الله إحكام الآيات، لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآنا، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلًا، أولى.
وخامسها: وهو أقوى الوجوه، أنا لو جوّزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه. وجوّزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك، ويبطل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي، وبين الزيادة فيه. فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال، أن هذه القصة موضوعة. أكثر ما في الباب أن جمعًا من المفسرين ذكرها. لَكِنهم ما بلغوا حد التواتر. وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة.
ثم أطال الرازي في تفصيل المباحث. ونقل عن أبي مسلم الأصفهاني ما توسع به البحث فانظره إن شئت.
فصل:
وكتب الأستاذ الإمام مفتي مصر، الشيخ محمد عبده رحمه الله في هذه الآية مقالة بديعية، نقتبس منها شذرات. قال: يعلم كل ناظر في كتابنا الإلهيّ القرآن ما رفع الإسلام من شأن الأنبياء والمرسلين، والمنزلة التي أحلهم من حيث هم حملة الوحي وقدوة البشر، في الفضائل وصالح الأعمال. وتنزيهه إياهم عما رماهم به أعداؤهم وما نسبه إليهم المعتقدون بأديانهم. ولا يخفى على أحد من أهل النظر، في هذا الدين القويم، أنه قد قرر عصمة الرسل كافة من الزلل في التبليغ، والزيغ عن الوجهة التي وجه الله وجوههم نحوها من قول أو عمل. وخص خاتمهم محمدًا صلى الله عليه وسلم فوق ذلك بمزايا فصلت في ثنايا الكتاب العزيز. وعصمة الرسل في التبليغ عن الله، أصل من أصول الإسلام. شهد به الكتاب وأيدته السنة، وأجمعت عليه الأمة. وما خالف فيه بعض الفرق، فإنما هو في غير الإخبار عن الله وإبلاغ وحيه إلى خلقه. ذلك الأصل الذي اعتمدت عليه الأديان، حق لا يرتاب فيه مِلِّيٌّ يفهم ما معنى الدين. ومع ذلك لم يعدم الباطل فيه أعوانًا يعملون على هدمه وتوهين ركنه. أولئك عشاق الرواة وعبدة النقل. نظروا نظرة في قوله تعالى: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} وفيما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن تمنى بمعنى قرأ والأمنية القراءة فعمي عليهم وجه التأويل، على فرض صحة الرواية عن ابن عباس، فذهبوا يطلبون ما به يصح التأويل في زعمهم. فقيض لهم من يروي في ذلك أحاديث تختلف طرقها وتتباين ألفاظها وتتفق في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عندما بلغ منه أذى المشركين ما بلغ، وأعرضوا عنه، وجفاه قومه وعشيرته، لعيبه أصنامهم وزرايته على آلهتهم، أخذه الضجر من إعراضهم. ولحرصه على إسلامهم تمنى ألا ينزل عليه ما ينفرهم، لعله يتخذ ذلك طريقًا إلى استمالتهم. فاستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة النجم إلى آخر ما رواه ابن جرير أولًا. وقد شايعه عليه كثير من المفسرين، وفي طباع الناس إلْف الغريب، والتهافت على العجيب.
فولعوا بهذه التفاسير، ونسوا ما رآه جمهور المحققين في تأويلها. وذهب إليه الأئمة في بيانها.
جاء في صحيح البخاريّ: وقال ابن عباس في: {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أمنيته} إذا حدث ألقي الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته. ويقال: أمنيته قراءته: {إِلاَّ أِمانيَّ} يقرؤون ولا يكتبون. انتهى.
فتراه حكى تفسر الأمنية بالقراءة بلفظ يقال بعدما فسرها بالحديث رواية عن ابن عباس. وهذا يدل على المغايرة بين التفسيرين. فما يدعيه الشراح أن الحديث في رأي ابن عباس بمعنى التلاوة يخالف ظاهر العبارة. ثم حكاية تفسير الأمنية بمعنى القراءة بلفظ يقال يفيد أنه غير معتبر عنده. وسيأتي أن المراد بالحديث حديث النفس.
وقال صاحب الإبريز: إن تفسير تمنى بمعنى: قرأ، والأمنية بمعنى: القراءة مروي عن ابن عباس في نسخة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. ورواها علي بن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقد علم ما للناس في ابن أبي صالح كاتب الليث، وأن المحققين على تضعيفه. انتهى.
وهذا ما في الرواية عن ابن عباس وهي أصل هذه الفتنة وقد رأيت أن المحققين يضعفون راويها. وأما قصة الغرانيق، فمع ما فيها من الاختلاف، فقد طعن فيها غير واحد من الأئمة، حتى قال ابن إسحاق: إنها من وضع الزنادقة. كما تقدم عن الرازيّ، ونحوه عن القاضي عياض رحمه الله، من وهنها وسقوطها من عدة أوجه.
وأما ما ذكره ابن حجر من أن القصة رويت مرسلة من طرق على شرط الصحيح، وأنه يحتج بها من يرى الاحتجاج بالمرسل، فقد ذهب عليه كما قال في الإبريز؛ أن العصمة من العقائد التي يطلب فيها اليقين. فالحديث الذي يريد خرمها ونقضها، لا يقبل على أي: وجه جاء. وقد عدّ الأصوليون الخبر الذي يكون على تلك الصفة، من الأخبار التي يجب القطع بكذبها. هذا لو فرض اتصال الحديث، فما ظنك بالمراسيل؟ وإنما الخلاف في الاحتجاج بالمرسل وعدم الاحتجاج به، فيما هو من قبيل الأعمال وفروع الأحكام، لا في أصول العقائد ومعاقد الإيمان بالمرسل وما جاءوا به. فهي هفوة من ابن حجر يغفرها الله له.
هذا ما قاله الأئمة، جزاهم الله خيرًا، في بيان فساد هذه القصة، وأنها لا أصل لها. ولا عبرة برأي من خالفهم. فلا يعتد بذكرها في بعض كتب التفسير، وإن بلغ أربابها من الشهرة ما بلغوا. وشهرة المبطل في بطله، لا تنفخ القوة في قوله. ولا تحمل على الأخذ برأيه.
ثم قال الأستاذ رحمه الله: والآن أرجع إلى تفسير الآيات على الوجه الذي تحتملها ألفاظها وتدل عليه عباراتها. والله أعلم:
لا يخفى على كل من يفهم اللغة العربية، وقرأ شيئًا من القرآن، أن قوله تعالى: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} الآيات، يحكي قَدَرًا قُدِّر للمرسلين كافة، لا يَعْدُونَه ولا يقفون دونه. ويصف شنشنة عرفت فيهم، وفي أممهم. فلو صح ما قال أولئك المفسرون لكان المعنى: أن جميع الأنبياء والمرسلين قد سلط الشيطان عليهم فخلط في الوحي المنزل إليهم. ولَكِنه بعد هذا الخلط ينسخ الله كلام الشيطان ويحكم الله آياته الخ، وهذا من أقبح ما يتصور متصور في اختصاص الله تعالى لأنبيائه، واختيارهم من خاصة أوليائه! فلندع هذا الهذيان، ولنعد إلى ما نحن بصدده.
ذكر الله لنبيه حالًا من أحوال الأنبياء والمرسلين قبله، ليبين له سنته فيهم. وذلك بعد أن قال: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ} [42]، إلى آخر الآيات ثم قال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [49- 52]، الخ، فالقصص السابق كان في تكذيب الأمم لأنبيائهم. ثم تبعه الأمر الإلهيّ بأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لقومه: إنني لم أرسل إليكم إلا لأنذركم بعاقبة ما أنتم عليه، ولأبشر المؤمنين بالنعيم. وأما الذين يسعون في الآيات والأدلة التي أقيمها على الهدى وطرق السعادة، ليحوّلوا عنها الأنظار ويحجبوها عن الأبصار، ويفسدوا أثرها الذي أقيمت لأجله، ويعاجزوا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أي: يسابقوهم ليعجزوهم ويسكتوهم عن القول بذلك. وذلك بلعبهم بالألفاظ وتحويلها عن مقصد قائلها، كما يقع عادة من أهل الجدل والمماحكة- هؤلاء الضالون المضلون هم أصحاب الجحيم. وأعقب ذلك بما يفيد أن ما ابتُلي به النبيّ صلى الله عليه وسلم من المعاجزة في الآيات، قد ابتلي به الأنبياء السابقون. فلم يبعث نبي في أمة إلا كان له خصوم يؤذونه بالتأويل والتحريف، ويضادّون أمانيه، ويحولون بينه وبين ما يبتغي، بما يلقون في سبيله من العثرات. فعلى هذا المعنى الذي يتفق مع ما لقيه الأنبياء جميعًا، يجب أن تفسر الآية. وذلك يكون على وجهين:
الأول: أن يكون تمنَّى بمعنى: قرأ والأمنية بمعنى: القراءة وهو معنى قد يصح. وقد ورد استعمال اللفظ فيه؛ قال حسان بن ثابت في عثمان رضي الله عنهما:
تَمَنَّى كتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيلِهِ ** وَآخِرَه لاقَى حِمَامَ المَقَادِرِ

وقال آخر:
تَمَنَّى كتابَ اللهِ أَوَّلَ ليلِهِ ** تَمنِّيَ دَاودَ الزَّبُورَ على رِسْلِ

غير أن الإلقاء لا يكون على المعنى الذي ذكروه، بل على المعنى المفهوم من قولك: ألقيتُ في حديث فلان، إذا أدخلت فيه ما ربما يحتمله لفظه، ولا يكون قد أراده. أو نسبت إليه ما لم يقله تعللًا بأن ذلك الحديث يؤدي إليه. وذلك من عمل المعاجزين الذين ينصبون أنفسهم لمحاربة الحق، يتبعون الشبهة، ويسعون وراء الريبة، فالإلقاء بهذا المعنى دأبهم، ونسبة الإلقاء إلى الشيطان لأنه مثير الشبهات بوساوسه، مفسد القلوب بدسائسه، وكل ما يصدر من أهل الضلال يصح أن ينسب إليه. ويكون المعنى: وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبيّ إلا إذا حدّث قومه عن ربّه، أو تلا وحيا أنزل إليه في هدى لهم، قام في وجهه مشاغبون، يحوّلون ما يتلوه عليهم عن المراد منه. ويتقوّلون عليه ما لم يقله، وينشرون ذلك بين الناس، ليبعدوهم عنه، ويعدلوا بهم عن سبيله، ثم يحق الله الحق ويبطل الباطل. وما زال الأنبياء يصبرون على ما كذّبوا وأوذوا، ويجاهدون في الحق، ولا يعتدّون بتعجيز المعجّزين، ولا بهزء المستهزئين إلى أن يظهر الحق بالمجاهدة، وينتصر على الباطل بالمجالدة. فينسخ الله تلك الشبه ويجتثها من أصولها، ويثبت آياته ويقررها. وقد وضع الله هذه السنّة في الناس ليتميز الخبيث من الطيب، فيفتتن الذين في قلوبهم مرض، وهم ضعفاء العقول، بتلك الشبه والوساوس، فينطلقون وراءها. ويفتتن بها القاسية قلوبهم من أهل العناد والمجاحدة، فيتخذونها سندًا يعتمدون عليها في جدلهم. ثم يتمحص الحق عند الذين أوتوا العلم، ويخلص لهم بعد ورود كل شبهة عليه، فيعلمون أنه الحق من ربك فيصدقون به، فتخبت وتطمئن له قلوبهم. والذين أوتوا العلم هم الذين رزقوا قوة التمييز بين البرهان القاطع الذي يستقرّ بالعقل في قرارة اليقين. وبين المغالطات وضروب السفسطة التي تطيش بالفهم، وتطير به مع الوهم، وتأخذ بالعقل تارة ذات الشمال وأخرى ذات اليمين. وسواء أرجعت الضمير في أنه الحق إلى ما جاءت به الآيات المحكمات من الهدى الإلهيّ أو إلى القرآن، وهو أجلّها، فالمعنى من الصحة على ما يراه أهل التمكين. هؤلاء الذين أوتوا العلم هم الذين آمنوا. وهم الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم. ولم يجعل للوهم عليها سلطانًا، فيحيد بهم عن ذلك النهج القويم. وأما الذين كفروا وهم ضعفاء العقول ومرضى القلوب، أو أهل العناد وزعماء الباطل وقساة الطباع، الذين لا تلين أفئدتهم ولا تبش للحق قلوبهم فأولئك لا يزالون في ريب في الحق أو الكتاب. لا تستقر عقولهم عليه، ولا يرجعون في متصرفات شؤونهم إليه. حتى تأتي ساعة هلاكهم بغتة، فيلاقوا حسابهم عند ربهم. أو إن امتد بهم الزمن، ومادّهم الأجل، فسيصيبهم عذاب يوم عقيم. يوم حرب يسامون فيه سوء العذاب، القتل أو الأسر. ويقذفون إلى مطارح الذل وقرارات الشر. فلا ينتج لهم من ذلك اليوم خير ولا بركة، بل يسلبون ما كان لديهم ويساقون إلى مصارع الهلكة. وهذا هو العقم في أتم معانيه وأشأم درجاته. ما أقرب هذه الآيات في مغازيها، إلى قوله تعالى في سورة آل عِمْرَان: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الْفِتْنَةِ وَابتغاء تَأْوِيلِهِ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يقولونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عِمْرَان: 7]، وقد قال بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} [آل عِمْرَان: 10]، ثم قال: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عِمْرَان: 12]، الخ الآيات. وكأن إحدى الطائفتين من القرآن شرح للأخرى. فالذين في قلوبهم زيغ هم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم. والراسخون في العلم هم الذين أوتوا العلم، وهؤلاء هم الذين يعلمون أنه الحق من ربهم. فيقولون آمنا به كلٌّ من عند ربنا، فتخبت له قلوبهم، وإن الله لهاديهم إلى صراط مستقيم. وأولئك هم الذين يفتتنون بالتأويل، ويشتغلون بقال وقيل بما يلقي الشيطان، ويصرفهم عن مرامي البيان، ويميل بهم عن محجة الفرقان. وما يتكئون عليه من الأموال والأولاد، لن يغني عنهم من الله شيئًا. فستوافيهم آجالهم، وتستقبلهم أعمالهم. فإن لم يوافهم الأجل على فراشهم. فسيغلبون في هراشهم. وهذه سنة جميع الأنبياء مع أممهم، وسبيل الحق مع الباطل من يوم أن رفع الله الإنسان إلى منزلة يميز فيها بين سعادته وشقائه، وبين ما يحفظه وما يذهب ببقائه. وكما لا مدخل لقصة الغرانيق في آيات آل عِمْرَان، لا مدخل لها في آيات سورة الحج، هذا هو الوجه الأول في تفسير الآيات: {وما أرسلنا} إلى آخرها، على تقدير أن تمنَّى بمعنى: قرأ وأن الأمنية بمعنى: القراءة والله أعلم.
الوجه الثاني في تفسير الآيات: أن التمني على معناه المعروف. وكذلك الأمنية. وهي أفعولة بمعنى المُنْية. وجمعها: أمانيّ كما هو مشهور. قال أبو العباس أحمد بن يحيي: التمني حديث النفس بما يكون وبما لا يكون. قال: والتمني سؤال الرب. وفي الحديث: «إذا تمنى أحدكم فليتكثر فإنما يسأل ربه» وفي رواية: فليكثر. قال ابن الأثير: التمني تشهِّي حصول الأمر المرغوب فيه، وحديث النفس بما يكون وبما لا يكون. وقال أبو بكر: تمنيت الشيء إذا قدرته وأحببت أن يصير إلى. وكل ما قيل في معنى التمني على هذا الوجه، فهو يرجع إلى ما ذكرناه ويتبعه معنى الأمنية. ما أرسل الله من رسول ولا نبيّ ليدعو قوما إلى هَدْي جديد، أو شرع سابق شرعه لهم، ويحملهم على التصديق بكتاب جاء به نفسه إن كان رسولًا؛ أو جاء به غيره إن كان نبيًّا بُعث ليحمل الناس على اتباع من سبقه، إلا وله أمنية في قومه. وهي أن يتبعوه وينحازوا إلى ما يدعوهم إليه، ويستشفوا من دائهم بداوئه، ويعصوا أهواءهم بإجابة ندائه. وما من رسول أرسل إلا وقد كان أحرص على إيمان أمته. وتصديقهم برسالته، منه على طعامه الذي يطعم، وشرابه الذي يشرب، وسكنه الذي يسكن إليه. ويغدو عنه ويروح علينا. وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك في المقام الأعلى، والمكان الأسمى. قال الله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذا الْحديث أَسَفًا} [الكهف: 6]، وقال: {وما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، وقال: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وفي الآيات ما يطول سرده، مما يدل على أمانيه صلى الله عليه وسلم المتعلقة بهداية قومه، وإخراجهم من ظلمات ما كانوا فيه، إلى نور ما جاء به. وما من رسول ولا نبيّ إلا إذا تمنى هذه الأمنية السامية، ألقى الشيطان في سبيله العثرات، وأقام بينه وبين مقصده العقبات. ووسوس في صدور الناس. وسلبهم الانتفاع بما وهبوا من قوة العقل والإحساس، فثاروا في وجهه، وصدوه عن قصده، وعاجزوه حتى لقد يعجزونه، وجادلوه بالسلاح والقول حتى لقد يقهرونه. فإذا ظهروا عليه، والدعوة في بدايتها، وسهل عليهم إيذاؤه وهو قليل الأتباع ضعيف الأنصار، ظنوا الحق من جانبهم، وكان فيما ألقوه من العوائق بينه وبين ما عمد إليه، فتنة لهم.
غلبت سنة الله في أن يكون الرسل من أواسط قومهم، أو من المستضعفين فيهم، ليكون العامل في الإذعان بالحق محض الدليل وقوة البرهان. وليكون الاختيار المطلق هو الحامل لمن يدعى إليه على قبوله. ولكيلا يشارك الحق الباطل في وسائله، أو يشاركه في نصب شراكه وحبائله. أنصار الباطل في كل زمان، هم أهل الأنفة والقوة والجاه والاعتزاز بالأموال والأولاد والعشيرة والأعوان والغرور بالزخارف. والزهو بكثرة المعارف. وتلك الخصال إنما تجتمع كلها أو بعضها في الرؤساء وذوي المكانة من الناس فتذهلهم عن أنفسهم، وتصرف نظرهم عن سبيل رشدهم. فإذا دعا إلى الحق داع، عرفته القلوب النقية من أوضار هذه الفواتن، وفزعت إليه النفوس الصافية والعقول المستعدة لقبوله، بخلوصها من هذا الشواغل. وقلما توجد إلا عند الضعفاء وأهل المسكنة فإذا التف هؤلاء حول الداعي وظافروه على دعوته، قام أولئك المغرورون يقولون: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وما نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وما نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27]، فإذا استدرجهم الله على سنته، وجعل الجدال بينهم وبين المؤمنين سجالًا، افتتن الذين في قلوبهم مرض من أشياعهم، وافتتنوا هم بما أصابوا من الظفر في دفاعهم. ولَكِن الله غالب على أمره. فيمحق ما ألقاه الشيطان من هذه الشبهات، ويرفع هذه الموانع وتلك العقبات، ويهب السلطان لآياته فيحكمها ويثبت دعائمها، وينشيء من ضعف أنصارها قوة، ويخلف لهم من ذلتهم عزة، وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى: {فَأَمَا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرض} [الرعد: 17]، وفي حكاية هذه السنة الإلهية التي أقام عليها الأنبياء والمرسلين، تسلية لنبينا صلى الله عليه وسلم عما كان يلاقي من قومه، ووعد له بأنه سيكمل له دينه، ويتم عليه وعلى المؤمنين نعمته، مع استلفاتهم إلى سيرة من سبقهم: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2- 3]، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البأساء وَالضراء وَزُلْزِلُوا حَتَّى يقول الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].